من منّا لا يلهمه الفضاء ولا يأسره الذكاء الاصطناعي، ولكن ماذا لو عملا سوياً؟
على مدار العقود الماضية، تغيّرت صناعة الفضاء بشكل جذري، والفضل في ذلك يعود إلى التقدم الهائل في التكنولوجيا، ولا سيما الذكاء الاصطناعي.
بفضل الذكاء الاصطناعي، تتزايد قدرة البشرية على استكشاف أعماق الكون بطرق لم تكن ممكنة من قبل، لذلك سنلقي صورة أقرب وأعمق على اندماج هاتين الصناعتين.
المحاور الرئيسية:
محاور التقدّم في صناعة الفضاء من خلال الذكاء الاصطناعي
لنسرد أهم المحاور التي سنتكلم عنها بشيء من التفصيل:
- تحليل البيانات الضخمة – سر الاكتشافات الفلكية.
- التصميم والمحاكاة – الابتكار في تصميم المركبات الفضائية.
- المهمات الفضائية بدون طاقم – القيادة الذاتية في الفضاء.
- إدارة الحطام الفضائي – ضمان أمان المدار الأرضي.
- كفاءة استهلاك الوقود – استدامة الرحلات الفضائية.
- التفاعل البشري-الآلي – تعاون من أجل المستقبل.
تحليل البيانات الضخمة – سر الاكتشافات الفلكية
هل تعلم ما هو أحد أكبر التحديات في استكشاف الفضاء؟
إنه الكم الهائل من البيانات التي يتم جمعها من التلسكوبات والأقمار الصناعية والمركبات الفضائية.
تتطلب معالجة هذه البيانات مهارات متقدمة وخوارزميات معقدة، وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي. تقنيات الـ AI تمكّن العلماء من تحليل هذه المعلومات بسرعة ودقة، مما يفتح آفاقًا جديدة لفهمنا للكون.
نأخذ مثالاً تلسكوب جيمس ويب الفضائي (JWST) حيث يعتبر أحد الأمثلة المهمّة جداً على استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الفلكية.
يتم امتصاص البيانات من “التلسكوب المعجزة JWST” بواسطة جيل جديد من الذكاء الاصطناعي المسرّع والمدعّم بواسطة وحدة معالجة الرسوميات GPU والذي تم إنشاؤه في جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز.

التصميم والمحاكاة – الابتكار في تصميم المركبات الفضائية
كما هو معلوم فإن تصميم المركبات الفضائية هو عملية معقّدة تتطلب توازنًا دقيقًا بين عدة عوامل مثل الوزن والأداء والقوة.
نحتاج وز خفيف لتوفير الوقود، وأداء قوي للمناورة والتحليق والإقلاع، مع القوة على التحمل في جميع الظروف، وهي المعادلة الصعبة جداً منذ ولادة صناعة الفضاء حتى اليوم.
الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم بشكل كبير في تحسين هذه العملية من خلال اقتراح تصاميم مبتكرة واختبارها في بيئات محاكاة تحاكي الظروف القاسية في الفضاء.
طبعاً لا ننسى أن المحاكاة والتحسين هي بالنهاية نماذج رياضية يتم تحسينها وتجريبها باستمرار، وهذا ما يبرع به وبقوة الذكاء الاصطناعي.
ونجد أن شركات مثل SpaceX تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحسين تصميم مركباتها الفضائية.
تتيح هذه التكنولوجيا للشركة تقليل الوزن وزيادة كفاءة الأداء، مما يمكنها من تنفيذ مهام فضائية أكثر فعالية وأقل تكلفة.
ومع شركة SpaceX فإن الذكاء الاصطناعي بدأ فعلاً بأخذ خطوة كبرى لغزو الحدود والمدارات.
سافرت شريحة Nvidia Jetson Orin NX، وهي واحدة من أكثر وحدات معالجة الرسوميات شيوعًا للذكاء الاصطناعي والحوسبة المتقدمة، إلى الفضاء في مهمة SpaceX’s Transporter 11.

المهمات الفضائية بدون طاقم – القيادة الذاتية في الفضاء
إن زيادة استخدام المركبات الفضائية غير المأهولة يعزز من قدرة البشر على استكشاف الأماكن البعيدة في الفضاء.
الذكاء الاصطناعي يتيح لهذه المركبات اتخاذ القرارات بشكل مستقل، مما يقلل من الحاجة إلى تدخل بشري مستمر ويزيد من فعالية المهمات.
لنتكلم عن مركبة “كيريوسيتي” (Curiosity) كمثال.
هي عربة متجولة على المريخ تتحرك بالطاقة النووية وهي جزء من مشروع مختبر علوم المريخ التابع لوكالة الفضاء الأمريكية.
هذه المركبة تستخدم الذكاء الاصطناعي للتنقل بشكل مستقل على سطح الكوكب الأحمر.
تقوم المركبة بتحليل بيئتها، اتخاذ قرارات حول المسارات الآمنة، وإجراء تجارب علمية بدون تدخل مباشر من الأرض، مما يعزز من قدرتها على جمع بيانات ذات قيمة عالية.

إدارة الحطام الفضائي – ضمان أمان المدار الأرضي
مع تزايد عدد الأجسام الفضائية في المدار، أصبح الحطام الفضائي يمثل تهديدًا كبيرًا للبعثات الفضائية, وهنا نجد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في تجنب الاصطدامات والحفاظ على أمان المدار الأرضي.
ففي مشروع “ClearSpace-1” المدعوم من وكالة الفضاء الأوروبية (ESA)، الذي يعتبر كأول مهمة لإزالة الحطام الفضائي من المدار، ستقوم Clearspace-1 بالالتقاء بجسم مهجور كبير والتقاطه وإنزاله بأمان من أجل رحلة آمنة.
طبعاً الهدف من هذا المشروع هو إزالة قطع الحطام الكبيرة من المدار، مما يقلل من المخاطر التي تهدد الأقمار الصناعية النشطة.

كفاءة استهلاك الوقود – استدامة الرحلات الفضائية
في الفضاء، كل جرام من الوقود له أهمية كبيرة، فهو ذو وزن وذو فائدة في آن واحد، ولا يوجد خيارات للتوقف والتزود بالوقود كما نعلم.
تحسين كفاءة استهلاك الوقود يعني القدرة على تنفيذ مهمات أطول وأكثر تعقيدًا.
وكلمة كفاءة تعنية، نماذج رياضية ومحاكاة وبرمترات حالة كثيرة جداً، وهنا الذكاء الاصطناعي يساعد في تحقيق هذا الهدف من خلال التنبؤ بالمسارات المثلى وتقليل الحاجة للتعديلات في منتصف الرحلة.
ونرى بوضوح أن وكالة ناسا اعتمدت على الذكاء الاصطناعي لتحسين مسارات المركبات الفضائية، مما ساعد في تقليل استهلاك الوقود وزيادة كفاءة المهمات، ما يتيح إمكانية إرسال مركبات إلى مسافات أبعد بتكلفة أقل.
كما نجحت أداة تخطيط إدارة الحركة الجوية التابعة لوكالة ناسا NASA Machine Learning Air Traffic Software في توفير أكثر من 24,000 رطلاً من وقود الطائرات.
ومنعت إطلاق أكثر من 77000 رطلاً من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي منذ تنفيذها في مطار دالاس فورت وورث الدولي (DFW) في يناير 2022.
التطلعات المستقبلية لصناعة الفضاء المدعومة بالذكاء الاصطناعي
عندما نتحدث عن المستقبل، فإن جزءً منه بدأ بالفعل وأصبح حاضراً، وقريباً سنعيش ما نسميه اليوم مستقبلاً.
يمكننا تلخيص النقاط المستقبلية بما يلي:
التفاعل البشري الآلي – الروبوتات جزء من الطاقم:
ستشهد السنوات المقبلة تطوير روبوتات ذكية تعمل جنبًا إلى جنب مع رواد الفضاء، ونقصد هنا التفاعل الكامل وليس المهام المحددة، مما يسهّل تنفيذ المهام الخطرة مثل الصيانة خارج المركبة الفضائية أو استكشاف البيئات القاسية على الكواكب الأخرى.
أي تكاملاً أعمق بين الذكاء الاصطناعي والبشر في المهام الفضائية.
استكشاف الفضاء العميق – الجيل القادم من المهمات الفضائية:
استكشاف الفضاء العميق يتطلب تقنية متقدمة وقرارات ذاتية في بيئات لا يمكن للبشر الوصول إليها بسهولة، ناهيك عن أن القيادة عن بعد ليست خياراً متاحاً في ظل المسافات الشاسعة الكونية.
الذكاء الاصطناعي سيكون العامل الأساسي في نجاح هذه المهمات، حيث سيساعد في تحليل البيانات واتخاذ القرارات السريعة وقيادة الرحلات بشكل كامل، مع تخفيف المخاطر البشرية.
وهذا مستقبل قد بدأ بالفعل من خلال الأمثلة التي ذكرناها أعلاه، ولكن الأمر متجه ليتطول لأبعد من ذلك بكثير.
استكشاف الأقمار الجليدية:
تعمل ناسا على تطوير مركبات ذكية قادرة على استكشاف الأقمار الجليدية مثل “أوروبا” التابعة لكوكب المشتري.
هذه المركبات ستستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل الجليد والمحيطات تحت السطح بشكل مستقل، مما قد يؤدي إلى اكتشافات جديدة عن إمكانية وجود حياة خارج الأرض.
مجالات البحث والتطوير اليوم للذكاء الاصطناعي في صناعة الفضاء
هذه الصناعة تبحث باستمرار عن أبحاث ونتائج وآليات جديدة تعين على تحسين الأداء وتحقيق نجاحات جديدة في استكشاف الفضاء.
ومن المجالات التي يتم العمل عليها اليوم هي:
- تحليل البيانات الفضائية: تطوير خوارزميات تحليل متقدمة لفهم البيانات التي يتم جمعها من المهمات الفضائية.
- تصميم الأنظمة الذكية: ابتكار أنظمة جديدة تساعد في تعزيز أداء المركبات الفضائية وتسهيل عملياتها.
- الروبوتات الفضائية: تطوير روبوتات تعمل بشكل مستقل في البيئات القاسية في الفضاء.
- الأمن السيبراني: حماية الأنظمة الفضائية من التهديدات السيبرانية وضمان سلامتها.
ومع توسّع شركات الفضاء الخاصة وتزايد التعاون بين الوكالات الحكومية والشركات التكنولوجية، من المتوقع أن تتزايد الأبحاث والطلب عليها.
يمكن للشركات الناشئة والمتخصصين في الذكاء الاصطناعي أن يجدوا فرصًا للتعاون مع الوكالات الفضائية لتطوير تقنيات جديدة تدعم المهمات المستقبلية.
خاتمة
من مهام محددة إلى روبوتات ذكية متكاملة مثل البشر ومن ثم عزو الفضاء والاستقلالية، هنالك صورة تتضح معالمها مع الوقت وكلٌ يراها من زاويته بطريقة مختلفة.
ولكن الجميع يرى بوضوح ان التقدم في صناعة الفضاء مدعوما بالذكاء الاصطناعي يعبّر أيضا على قوة الدول وتطورها ويساعدها على السيطرة أكثر.
في الوقت نفسه فإنه يفتح فرص جديدة لكل من يعشق هذين المجالين لكي يدخلها ويصبح باحثاً فيها.