هل ينتقل الذكاء من المساعدة إلى أخذ الكرسي بالكامل؟ وفي أماكن حساسة جداً تقود البشرية وفي قمة الهرم العلمي؟
هذا تساؤل من الصعب جداً الجزم بإجابته، ولكن هنالك مؤشّرات جديدة تقودنا للإجابة بكلمة نعم.
المحاور الرئيسية:
الخطف خلفاً للقصة
من النهاية، نعم أصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على أخذ كرسي الباحث بشكل كامل من الألف إلى الياء وهو المنصب الأخير الذي كنّا نتوقع أن يسيطر عليه الذكاء الاصطناعي.
وللدقة والأمانة، فإن ما سبق ليس أكيداً مئة بالمئة فهو فقط نتيجة لبحث جديد ناجح مؤخراً وسيتم تطويره مع الوقت.
ماذا يعني بحث علمي؟
بشكل عام يمكننا تعريف البحث العلمي على أنه عملية إبداعية علمية منظّمة تهدف إلى اكتشاف معلومات جديدة، تفسير الظواهر، أو التحقق من فرضيات معينة باستخدام أساليب منهجية دقيقة.
يعتمد البحث العلمي على جمع البيانات وتحليلها للوصول إلى نتائج يمكن توثيقها واستخدامها لإثراء المعرفة في مجال معين.
ويمر البحث العلمي عموماً بخطوات عريضة هي:
1- اختيار موضوع البحث Choosing the Research Topic
اختيار موضوع يثير اهتمام الباحث، وصياغة مشكلة واضحة ومحددة يسعى الباحث إلى حلها أو فهمها من خلال البحث.
2- مراجعة الأدبيات Literature Review
استعراض الأبحاث والدراسات التي تناولت نفس الموضوع أو موضوعات مشابهة، لتحديد الفجوات البحثية وتجنب التكرار.
3- صياغة فرضيات البحث Formulating Hypotheses
وضع فرضيات واضحة ومحددة يمكن اختبارها علمياً، تكون بمثابة إجابات مؤقتة لمشكلة البحث.
4- اختيار منهجية البحث Choosing the Research Methodology
اختيار تصميم البحث المناسب، وصفي، تجريبي، شبه تجريبي، دراسة حالة، تحليل بيانات، وغيرها، ومن ثم تحديد الأدوات, العينة والتفاصيل حولها.
5- جمع البيانات Data Collection
جمع البيانات باستخدام الأدوات المختارة وفقاً للمنهجية المحددة مع التأكد من دقة وصحة البيانات المجمعة وتوثيقها بشكل مناسب.
6- تحليل البيانات Data Analysis
تحليل البيانات باستخدام الأساليب الإحصائية المناسبة للبيانات الكمية أو التحليل الموضوعي للبيانات النوعية.
7- مناقشة النتائج Discussion of Results
تفسير البيانات المستخلصة وربطها بفرضيات البحث ومشكلة البحث، ومقارنة النتائج الحالية بنتائج الأبحاث السابقة لتحديد أوجه الاتفاق والاختلاف.
تحديد النقاط القوية في الدراسة وأي تحديات أو قصور قد تكون أثرت على النتائج.
8- الخاتمة والتوصيات Conclusion and Recommendations
تلخيص أهم النتائج التي توصل إليها البحث والإجابة على سؤال البحث أو فرضياته، مع تقديم توصيات عملية أو علمية بناءً على النتائج، يمكن استخدامها في البحوث المستقبلية أو التطبيقات العملية.
9- تدوين المراجع Referencing
تدوين جميع المصادر والمراجع التي تم الاستناد إليها في البحث، باستخدام أسلوب التوثيق المناسب.
10- إعداد التقرير النهائي Writing the Final Report
كتابة البحث بشكل منظم ومتكامل يتضمن جميع الأجزاء من المقدمة إلى الخاتمة مع مراجعة البحث للتأكد من خلوه من الأخطاء اللغوية والعلمية، وضمان الالتزام بالمعايير الأخلاقية والمنهجية.
11- نشر البحث Publication
اختيار المنصة المناسبة لنشر البحث، سواء كانت مجلة علمية محكمة أو مؤتمر علمية وربما تقديم البحث للمراجعة والنشر، والرد على أي تعليقات أو ملاحظات من المراجعين.
المعضلة أمام الذكاء الاصطناعي
هذه الخطوات السابقة للبحث العلمي تمثل إطارًا عامًا يمكن تعديله وفقًا لطبيعة البحث والتخصص الأكاديمي.
ولكن الذكاء الاصطناعي لا يقوم بها بشكل كامل، بل يشرف عليها البشر ويستعينون بالذكاء الاصطناعي خلال عملهم عليها.
ما هو الدور التقليدي للذكاء الاصطناعي في الأبحاث العلمية؟
قبل شهرين من الآن, كان دور الذكاء الاصطناعي معروفاً في النشاطات التالية:
1- تحليل البيانات Data Analysis
وهي المهمة التقليدية منذ ثورة الذكاء الاصطناعي، فهو قادر على تحليل كميات ضخمة من البيانات بسرعة ودقة، سواء كانت بيانات كمية مثل الاستبيانات أو بيانات نوعية مثل النصوص.
يمكن للذكاء الاصطناعي تحديد الأنماط والارتباطات في البيانات التي قد يصعب على الباحث البشري اكتشافها.
طبعاً هذه قيمة كبيرة للباحثين وتوفر عليهم ساعات وأشهر من العمل المضني وتسرّع لهم الوصول لنتائج الأبحاث.
2- مراجعة الأدبيات Literature Review
أو دعنا نسميها تلخيص ما هو مهم بزمن قصير حيث يمكن للذكاء الاصطناعي الوصول إلى مئات الآلاف من الأبحاث العلمية في قواعد البيانات وتحليلها لاستخلاص أهم الأفكار والمفاهيم.
الأمر هنا يختلف عن تحليل البيانات، الموضوع هنا هو قراءة الأبحاث وفهم السياقات وربط الأمور المهمة ببعضها وتقديم التلخيص والاستنتاجات المهمة.
3- توليد الفرضيات Hypothesis Generation
باستخدام نماذج تعلم الآلة، يمكن للذكاء الاصطناعي اقتراح فرضيات جديدة بناءً على البيانات المتاحة والمعرفة السابقة, ولا ننسى ان هذه الامر إبداعي وعلمي بآن واحد.
4- التجارب والمحاكاة Experiments and Simulations
يمكن للذكاء الاصطناعي تصميم تجارب علمية ومحاكاة سيناريوهات مختلفة لاختبار فرضيات معينة.
هذا يقلل من الحاجة إلى إجراء تجارب فعلية باهظة التكلفة أو معقدة, والتطوير مستمر في مجال المحاكاة حتى نضمن الدقة ومطابقة الواقع.
5- الكتابة العلمية Scientific Writing
يمكن لنماذج معالجة اللغة الطبيعية NLP مساعدة الباحثين في كتابة أجزاء معينة من البحث، مثل تلخيص البيانات أو كتابة مقدمة.
ما هو الإنجاز الجديد للذكاء الاصطناعي؟
طورت شركة Sakana AI اليابانية بالتعاون مع علماء من جامعة أكسفورد وجامعة كولومبيا البريطانية نظام ذكاء اصطناعي يمكنه إجراء أبحاث علمية شاملة بشكل مستقل.
تم تسمية هذا الإنجاز بـ “عالم الذكاء الاصطناعي AI Scientist” وهو ما أثار ضجة في أوساط الباحثين.
يقوم الـ AI Scientist بأتمتة دورة حياة البحث بأكملها، من توليد أفكار جديدة، أفكار إبداعية وفرضيات إلى كتابة بحث علمي كامل بكل أركانه.
وذكر الفريق في ورقتهم البحثية التي نُشرت حديثًا: “نقترح وندير نظامًا مدفوعًا بالذكاء الاصطناعي بالكامل للاكتشاف العلمي الآلي، وتطبيقه على أبحاث التعلم الآلي”.
يستخدم هذا النظام المبتكر نماذج لغوية كبيرة LLM لمحاكاة العملية العلمية.
ويمكنه توليد أفكار بحثية وتصميم التجارب وتنفيذها وتحليل النتائج وحتى إجراء مراجعات الأقران لأوراقه البحثية.
ويزعم الباحثون أن The AI Scientist يمكنه إنتاج ورقة بحثية كاملة مقابل 15 دولارًا تقريبًا من تكاليف الحوسبة.

ما هي أبعاد هذا النظام الذكي الجديد؟
يعد هذا الإنجاز، المسمى “عالم الذكاء الاصطناعي The AI Scientist”، تحول كبير في مجال الأبحاث والاكتشاف العلمي بشكل كامل.
لك ان تتصور الأهمية الكبيرة لهذا الإنجاز:
- عجلة التطور: من محرك بخاري إلى قطار الطلقة، هل ترى هذا الفرق الشاسع؟ هذا هو بالضبط التطور الذي حصل في سرعة الأبحاث.
- كلفة الحوسبة: الحوسبة مكلفة جداً جداً عندما يأتي الأمر للذكاء الاصطناعي، ولكن هنا الأمر مختلف، فالكلفة منخفضة جداً وبالتالي التوسّع بالإنجاز وتطويره سيكون أمراً ممكناً.
ربما هذا يذكرنا بأحد أفكار الخيال العلمي التي مرّت في مسلسل Pantheon الذي تحدّث عن نقل الذكاء البشري للآلة Uploaded Intelligence بغرض استخدام الذكاء البشري بسرعة كبيرة جداً.
ولكن الامر هنا مختلف فنحن أمام ذكاء اصطناعي وليس ذكاء بشري يتم محاكاته، ولكنه قادر على أداء ما تخيل به البشر في ذلك المسلس.
ماهي الآثار المترتبة على هذا الإنجاز؟
إن الآثار المترتبة على مثل هذا النظام عميقة ومتعددة الأوجه.
فمن ناحية، قد يؤدي هذا النظام إلى تسريع وتيرة الاكتشاف العلمي بشكل كبير من خلال السماح بإجراء أبحاث مستمرة على مدار الساعة دون قيود بشرية.
وقد يؤدي هذا إلى تقدم سريع في مجالات مثل اكتشاف الأدوية، وعلم المواد، والتخفيف من آثار تغير المناخ.
ولكن أتمتة البحث العلمي تثير تساؤلات بالغة الأهمية حول الدور المستقبلي للعلماء من البشر.
ففي حين قد تتفوق الذكاء الاصطناعي في معالجة كميات هائلة من البيانات وتحديد الأنماط، فإن الحدس البشري والإبداع والحكم الأخلاقي يظلان عنصرين حاسمين في توجيه البحث العلمي نحو نتائج ذات مغزى ومفيدة.
وسوف يتمثل التحدي في إيجاد التوازن الصحيح بين الكفاءة التي يقودها الذكاء الاصطناعي والغرض الذي يوجهه الإنسان في البحث العلمي.
ولا ننسى أن مصائب قوم عند قوما فضائل، وهنا العكس تماماً ففضائل قوم عند قوم مصائب، لأن قدرة النظام على إجراء البحوث بتكلفة منخفضة للغاية قد يكون لها آثار اقتصادية كبيرة على المؤسسات الأكاديمية.
وقد يؤدي هذا إلى إعادة هيكلة كيفية تمويل البحوث وإجرائها، مع ما يترتب على ذلك من آثار على التوظيف في القطاع العلمي.
ويعترف الباحثون أنفسهم بالمخاطر المحتملة المرتبطة بمثل هذه الأنظمة القوية للذكاء الاصطناعي.
ويشرحون ذلك في ورقتهم البحثية قائلين:
“إن القدرات الحالية لعلماء الذكاء الاصطناعي، والتي سوف تتحسن فقط، تؤكد أن مجتمع التعلم الآلي يحتاج إلى إعطاء الأولوية على الفور لتعلم كيفية مواءمة مثل هذه الأنظمة للاستكشاف بطريقة آمنة ومتسقة مع قيمنا”.

خلاصة مهمة
في خضم النقاش الحالي حول هذا الإنجاز، فريق يرونه جيد، ولكنه لا يرتقي للمستوى المطلوب ولديه نقاط ضعف كثيرة، وفريق متفائل يعتبره الفتيل لإشعال المحرك الصاروخي للإقلاع بالأبحاث العلمية.
نرى أنه من المهم جداً التمتع بالتروي مع المرونة، التروي بان لا نحكم على الأمور بسرعة سواء بالفشل او النجاح، والمرونة أي نكون جاهزين لتغيير النمط الحالي بما يتلاءم مع المستجدات السريعة.